يوم رأيت العقاد وزرت بيته بعد خمسين سنة من رحيله

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!

«دار صادر» تحتفي بـ160 سنة من النشر بدأت ببيع المسابح

يصرّ صاحب «دار صادر» للنشر، في بيروت، التي تحتفي هذا العام بمرور 160 سنة على تأسيسها، على أن مؤسسته التي بدأت في تسليم الأمانة إلى الجيل الخامس من العائلة، ما كانت لتصمد، وتستمر، في بلد عاش حروباً ضارية، وانهيارات، واضطرابات متلاحقة دون استراحة، لولا نعمتي الإصرار والمثابرة. ويقول نبيل صادر الذي أدار الدار منذ وفاة والده أنطوان مع إخوته إبراهيم وسليم، بأن «المهمة لم تكن سهلة. والصعوبات اليوم أكثر من أي وقت مضى بسبب الأزمة الاقتصادية والوباء… لكن أسلافنا تجاوزوا بالدار مهالك كثيرة أيضاً. مروا بالحرب العالمية الأولى والثانية، وعلى أيام والدي كانت الحرب الأهلية، وبيروت منقسمة بين شرقية وغربية. كنا ننقل الكتب من جهة إلى أخرى تحت الخطر. هذا عدا صعوبات الشحن وسط المعارك».

وخلال حرب إسرائيل على لبنان عام 2006، كما يضيف نبيل الذي كان قد تسلّم زمام الدار بعد وفاة والده: «يومها لم نعرف كم ستستمر الحرب، وخشينا أن نخسر أسواقنا، فكنا نعبر بكتبنا الحدود السورية إلى طرطوس، ومن هناك نشحنها إلى تونس والمغرب والجزائر. كافحنا بكل ما نملك لنصمد. إنه صراع البقاء. وهذا جزء من التاريخ».

الأزمة اليوم أسوأ من الحرب، هو وضع لا سابق له. ولحسن الحظ، يقول نبيل صادر: «إن الإخوة العرب يتعاطفون معنا ويتعاونون، فيما يخص تسهيل المشاركة في المعارض، والاشتراكات، وهناك دول تعفينا من الدفع. نحن مؤتمنون على رسالة نعرف قيمتها، ومصرون على المضي بها، وعلى الحفاظ على الصورة الجميلة لبلدنا».

لا يشعرك نبيل صادر -الوريث من الجيل الرابع- أن التكنولوجيا تشكّل أزمة بالنسبة للدار، مع أن كثيرين ينعون الكتاب الورقي: «لأن الكتاب يتمتع بقدرة قوية على المقاومة. يجب أن نفكر دائماً في كيفية الإفادة من التحولات. صرنا بفضل هذه الوسائل نبيع في جنوب أفريقيا، وأميركا الجنوبية، واليابان، وكازاخستان. هي أماكن لم نكن نحلم -لولا التقدم التكنولوجي- ببلوغها. إضافة إلى أننا منذ عام 2000 كنا قد وضعنا (لسان العرب) على أسطوانة ممغنطة. وما نطمح إليه اليوم أن نصدر كتباً إلكترونية بقدر ما لدينا من كتب ورقية». يستطرد: «صحيح أن القواميس قد خفّ بيعها؛ لكن كتب التراث التي كنا رواداً في طباعتها، وكتب الأدب والشعر، تشعر القارئ بحنين إليها باستمرار».

مطلع الشهر الحالي، كرَّم «الديوان– البيت الثقافي العربي» في برلين: «دار صادر» اللبنانية للنشر، بمناسبة 160 سنة على تأسيسها، ضمن فعاليات «معرض الديوان الأول للكتاب العربي»، وهو تكريم للنشر اللبناني، لما لهذه الدار من تاريخ طويل وممتد، وقصة كفاح.

بدأت الحكاية عندما فتح إبراهيم صادر عام 1863 دكاناً في سوق «أبو النصر» في بيروت؛ حيث راح يبيع المسابح التي يصنعها بنفسه من الأحجار الكريمة. وكان في عداد الزبائن رهبان، يصنع لهم كتيّبات الصلوات، بعد أن اشترى آلة طابعة ووظف عاملاً لإنتاج تلك الكتب، ثم سرعان ما حوّل دكّانه إلى ما سمّاه «المكتبة العموميّة»، وأصبح أحد أوائل الكُتبيين في بيروت، ولم تكن كلمة «مكتبة» شائعة بعد.

يروي لنا نبيل صادر أنه بعد بضع سنوات، أخذ صاحب «المكتبة العمومية» يطور عمله من طباعة الكتب الدينية إلى الأدب: «توجد دراسة تُظهر أن المكتبة العموميّة نشرت ما لا يقلّ عن 28 كتاباً بين عامَي 1873 و1889، إضافة إلى 26 مؤلَّفاً خلال الفترة نفسها تقريباً؛ لكنها غير مؤرَّخة». حملت هذه الكتب غالباً عبارة «طُبع بنفقة إبراهيم صادر، صاحب المكتبة العموميّة». وهذا النوع من العبارات بدأ يشيع في مصر ولبنان، مع ظهور أولى سمات النشر الاحترافي، بحيث بدأ التمييز بين عمل الناشر، والمطبعة، والموزع.

«هي أيضاً فترة وصول الإرساليات إلى لبنان»، كما يقول نبيل صادر. كانت الأولى هي إرسالية «الكلية الإنجيلية السورية» عام 1866 التي صار اسمها «الجامعة الأميركية» في بيروت. كانت لها «مطبعة الكلية»، من بعدها وصلت البعثة اليسوعية 1875 التي صارت «جامعة القديس يوسف»، وأسسوا ما سمُّوه «المطبعة الكاثوليكية»، وأغلقت من نحو 20 سنة، وبيعت أرضها. وكذلك «مطبعة الأميركان» أغلقت بعد الحرب الأهلية، ومطابع أخرى لم يعد لها من أثر.

للحديث عن ملامح دور نشر بالمعنى العصري للكلمة، علينا انتظار بداية القرن العشرين. في عام 1903 نشرت «دار صادر» كتاب «مائة قصة صغيرة» وهي مجموعة قصص مترجمة بالفرنسية والعربية، كتب عليها «سليم صادر ناشر ومكتبي». من بعدها صارت تتبلور المهنة، وتحولت بعض المكتبات إلى دور نشر.

عام 1893، نقل إبراهيم صادر المؤسس صلاحياته إلى ولديه، بموجب عقد نصَّ على أن «المكتبة العموميّة» و«المطبعة العلميّة» تشكّلان معاً شركة واحدة يملكها الوريثان، على أن يتكفّل هذان الأخيران بإعالة أبيهما وأمّهما حتى وفاتهما.

وبمقتضى هذه الوثيقة، كان سليم وحده مخوَّلاً التوقيع باسم المكتبة، ويوسف باسم المطبعة. دامت هذه الشراكة إلى أن قرّر الشريكان وضع حدّ لها عام 1907. وسليم هو مؤلّف نحو 20 كتاباً، وصاحب مكتبة، وناشر وصاحب مطبعة، كرّس حياته كلَّها لخدمة الكتب. حاول فتح فرع في الإسكندرية، وأقام سليم نقاط بيع في حيفا، وربطته علاقة وثيقة بصاحب «مكتبة المنار» في تونس، وهي علاقة لا تزال آثارها باقية إلى اليوم.

انتقلت «دار صادر» لعناية أنطون سليم صادر عام 1935، ومعه أصبحت المكتبة دار نشرٍ بالمعنى الحديث. يومذاك، بدأ النشر اللبناني يزهر، وتُطبع القواميس والكتب المدرسيّة والتاريخ والتراث العربي.

«والدي أنطون هو الجيل الثالث» كما يقول نبيل صادر. «أيامه بدأت دور النشر تزدهر، كانت (دار المكشوف) لصاحبها الشيخ فؤاد حبيش، ومن الدور المعروفة (دار الكشاف) لمصطفى فتح الله، و(دار الآداب) لسهيل إدريس، و(دار بيروت) لمحمود صفي الدين، وقد أسسوا معاً نقابة، وبدأت مهنة النشر تتبلور في مصر ولبنان والعالم العربي مع بداية الأربعينات، وكان والدي من المؤسسين. وتحول لبنان إلى ملجأ للكتاب والأدباء بفضل الحرية الفكرية».

حين توفي أنطوان، 1983، كانت الحرب الأهلية اللعينة في ذروتها، و«نحن معروفون بعملنا على كتب التراث، وقد اشتغلنا مع أشهر المحققين، من إحسان عباس، ويوسف نجم، وإبراهيم شبوح، وعدد كبير من المتخصصين، ويسعدنا كثيراً أننا خدمنا التراث العربي».

حتماً، الجيل الرابع الذي يدير «دار صادر»، أي نبيل صادر وأخواه، لا بد من أنهم يشعرون بوطأة التحولات، وصعوبة الظرف؛ لكن هذا الإرث الثقافي والعلمي الكبير، يدفع بهم لمزيد من الإصرار على الاستمرار.

فقد استقطب والدهم أنطوان كبار المثقّفين والكتّاب الذين غالباً ما كانوا يلتقون في مكتبه، وينشرون كتبهم في داره، منهم ميخائيل نعيمة وإلياس أبو شبكة، والناقد الفلسطيني إحسان عبّاس، والمترجم المصري مصطفى ماهر، وإيليا أبو ماضي، وكذلك مي زيادة.

لا يشعرك نبيل صادر -الوريث من الجيل الرابع- أن التكنولوجيا تشكّل أزمة بالنسبة للدار مع أن كثيرين ينعون الكتاب الورقي

ستنتقل الدار تدريجياً إلى الجيل الشاب. إنه الجيل الخامس. سارة ابنة نبيل هي أول الغيث. تخصصت في الترجمة وعلم الاتصال، وهي تهتم بالمعارض والتواصل مع الصحافة ودور النشر. وأولاد عمها، كل منهم توجه إلى اختصاص مختلف، بعضها علمي، لتحقيق التكامل الذي يخدم الدار في النهاية. «نحن نسعى إلى الاستفادة من التطورات التكنولوجية، ونجيرها لمصلحة الكتاب»، كما يعلق نبيل صادر.

تاريخ شيّق لعائلة من الناشرين، يتوارثون الحمل جيلاً بعد آخر، والتفاصيل تستحق فعلاً القراءة. وقد عمدت «دار صادر» إلى إصدار مجلد قيّم حمل عنوان «في بيروت… ومضت فكرة»، يوثق لهذا التاريخ، استغرق العمل به سنوات طوالاً.

‫0 تعليق

اترك تعليقاً