مرضى السرطان من سوريا يدخلون تركيا لتلقي العلاج

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!

بويز: حاول بوش في مدريد إقناعي بمفاوضات ثنائية مع شامير فرفضت

حين انتخب إلياس الهراوي رئيساً للجمهورية اللبنانية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1989، إثر اغتيال الرئيس رينيه معوّض، وجد أمامه حطام دولة. وتأكد الهراوي، ومعه وزير الخارجية فارس بويز أن العالم تعب من لبنان وفوّض إلى سوريا معالجة شؤونه. ولم تكن مصالح دمشق وبيروت تتطابق دائماً. لكن بويز يشير إلى أن الهاجس الأول لدى الرئيس حافظ الأسد كان الحيلولة دون تمكن الغرب من اجتذاب لبنان إلى سلام مع إسرائيل يُضعف موقف سوريا وأوراقها. هذا ما استنتجه بويز من عشرات اللقاءات الطويلة التي عقدها مع الرئيس السوري. بلغ الأمر حد أن قوى حليفة لسوريا في مجلس الوزراء اللبناني كانت أحياناً تتسرع في التقدير وتطالب لسوريا بما لم تطالب هي به، وأحياناً كان لا بد من الاستعانة بالأسد وحين تأتي الإشارة منه ينقلب مناخ مجلس الوزراء بسحر ساحر.

في الشأن الإقليمي، تمكن بويز من عبور استحقاقات إقليمية دون الوقوع في الأفخاخ والإغراءات. وها هو يؤكد أن الرئيس جورج بوش اقترح عليه في ختام اللقاء الأول لمؤتمر مدريد للسلام أن ينخرط لبنان في محادثات ثنائية مباشرة مع رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحق شامير، لكن بويز رفض العرض وأصر على الصيغة الأصلية لمؤتمر مدريد. ساهم ارتياح دمشق إلى أداء لبنان في مؤتمر السلام في تشجيع دمشق على دعم تمديد ولاية الهراوي ثلاث سنوات. في بداية تسعينات القرن الماضي زار وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر عواصم الدول المعنية بمؤتمر مدريد للسلام. حاول استثناء لبنان من جولاته لأن الأجهزة الأميركية رفضت الموافقة على هبوط طائرته في مطار بيروت بسبب وجود «حزب الله». تخوّف بويز من تكريس قاعدة استثناء لبنان ورفض على مدار أسابيع اقتراحات أميركية للقاء بيكر في عمّان أو إسطنبول أو القاهرة أو أثينا. ذات يوم اتصل به وزير الخارجية السوري فاروق الشرع وأبلغه رسالة من الأسد. جاء في الرسالة أن السلطات السورية مستعدة لوضع فندق «شيراتون» في دمشق في تصرف السلطات اللبنانية لعقد لقاء فيه مع بيكر. وقال الشرع إن دمشق مستعدة لإزالة الرموز السورية في الفندق ومستعدة لاستقبال عسكريين لبنانيين لتولي الأمن في محيطه خلال اللقاء.

الهراوي مستقبلا وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر في مدينة زحلة (أرشيف فارس بويز)

اعتذر بويز عن قبول العرض وشعر أن واشنطن استعانت بدمشق لإحراج لبنان ودفعه إلى تغيير موقفه. كما اعتذر بويز أيضاً حين تلقى اتصالاً في الموضوع نفسه من وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل. بعد أخذ ورد وفي موعد صباحي باكراً بعيداً عن عيون الصحافة، أبلغ السفير الأميركي في بيروت ريان كروكر وزير الخارجية اللبناني أن بيكر مستعد للقدوم إلى لبنان برّاً من دمشق. أوضح كروكر أن اللقاء سيُلغى على الفور إذا تسرّب أي كلام عن الموعد المقرر بعد عشرة أيام. اقترح بويز عقد اللقاء في منزل الرئيس الهراوي في زحلة في البقاع اللبناني وقرر الاحتفاظ بالسر. عشية الموعد ذهب إلى الهراوي وأبلغه وشدد على سرية الموضوع. طلب من الرئيس أن يكلّف زوجته منى بالتوجه مع فريق العاملين لديها لإعداد المكان والغداء الذي سيعقب اللقاء. وتم إخفاء السر على السيدة الهراوي، إذ أُبلغت أن وفداً سورياً رفيعاً سيزور لبنان غداً وقد يكون برئاسة حافظ الأسد. زار بويز رئيس الحكومة رشيد الصلح وتمنى عليه أن يكون جاهزاً في الثامنة صباح اليوم التالي للتوجه إلى اجتماع مهم سيعقد في البقاع. وهكذا عُقد اللقاء في مدينة زحلة، وهو ما اعتُبر في حينه نجاحاً للدبلوماسية اللبنانية.

بويز مع وزير الخارجية الفرنسي إيرفيه دو شاريت بحضور شيراك والحريري أثناء توقيع اتفاق شراكة بين لبنان وفرنسا (أرشيف فارس بويز)

سألت بويز كيف كانت جلسات مجلس الوزراء في عهد الرئيس إلياس الهراوي وبعده في عهد الرئيس إميل لحود وسأتركه يروي.

تسمية الأشياء بأسمائها تدفع إلى القول إن جلسات مجلس الوزراء كان يطبعها النفوذ السوري. وكان يطبعها طابع آخر، وهو أنه لم تكن هناك دولة سنة 1990 عندما تسلّم الرئيس الهراوي سدة الرئاسة. لم تكن هناك دولة ولا جيش ولا قوى أمن ولا قضاء ولا محاكم ولا مخافر ولا مستشفيات ولا كهرباء ولا ماء ولا شيء، ولا يوجد حتى هاتف من قرية إلى قرية. وكان من الواضح جداً أن العالم تعب من لبنان وأوكل إلى سوريا أمر معالجة موضوعه طبقاً لبرنامج معيّن هو اتفاق الطائف. إذن كنا أمام واقع هو أن كل العالم يردّك إلى سوريا.

مهما قلت ومهما كانت شكواك، يقولون لك: اذهب إلى سوريا. وسوريا عملياً مفوضة بهذا الأمر ضمن إطار اتفاق الطائف. من هنا، كان لسوريا حجم ودور كبيران. وكان لسوريا حلفاء في مجلس الوزراء بعضهم حلفاء يتبنون بشكل مطلق وجهة النظر السورية والتي كانت أحياناً تختلف عن مصلحة الدولة اللبنانية. كنا أمام مشكلة وهي أننا في حاجة إلى سوريا لمساعدتنا على إعادة بناء الدولة وحل الميليشيات وإعادة تكوين جيش وجمع الأسلحة وانتشارالجيش في كل المناطق اللبنانية التي كانت محتلة من قبل الميليشيات، وفي الوقت عينه سوريا ليست مؤسسة خيرية، بل لها حساباتها وسياستها ومصالحها، وكذلك لها تقديرها أو تفسيرها الخاص للأمور.

كلمة لبنان في مؤتمر مدريد (أرشيف فارس بويز)

ومن هنا، لم يكن سهلاً التوفيق بين هاتين الحاجتين: التوفيق بين الحاجة إلى سوريا، علماً أنه لا أحد كان مستعداً لمساعدتنا، لا أميركا ولا الفاتيكان ولا فرنسا، الأم الحنون. كان الجميع يرسلوننا إلى سوريا. وفي الوقت عينه، كنا حذرين من أن حسابات سوريا قد لا تلتقي دائماً مع حسابات أو مصلحة الدولة اللبنانية وأن تفسيرات سوريا لاتفاق الطائف أو لغير هذا الأمر قد تختلف بشكل أو بآخر. وهنا كان بعض اللبنانيين يتطوعون للدفاع عن مصالح سوريا وأحياناً أكثر مما تريد سوريا نفسها. هناك قوى وشخصيات لبنانية كانت تعتبر أن إظهار حرصها على حماية مصالح سوريا سيؤهلها ويعزز موقعها بشكل أو بآخر. فمثلاً في يوم من الأيام قامت الدول الأوروبية بتكوين شيء اسمه «اتفاق الشراكة الأوروبية – المتوسطية»، أي شراكة بين أوروبا وبين دول ليست أوروبية لكنها موجودة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط وعلى مقربة من أوروبا، واقتصاداتها ومصالحها تحتم أن يكون هناك اتفاق. هذا الاتفاق يقضي بأن الدولة المعنية، أي المتوسطية، تتقدم بطلب تُظهر فيه للدول الأوروبية أنها تقاسمها ذات أسس أو مبادئ الحريات العامة وحقوق الإنسان والاقتصاد الحر والانفتاح الثقافي… إلخ. وبالفعل كان الأمر يقتضي أن تطلب الدولة التي تريد الانضمام إلى الاتفاق من بروكسل ثم يذهب وزير الخارجية ويقدم مرافعة ويطلب هذه الصفة.

فارس بويز مع الوزير فاروق الشرع بتاريخ 16-7-1993 (أرشيف فارس بويز)

ذهبنا، وكانت الأصول تقضي بأن يحتفظ الأوروبيون بالرد لعدة أشهر قبل أن يجيبوا، ثم إنهم قد لا يردون إيجاباً. ذهبت إلى بروكسل وقمت بالمرافعة اللازمة، وأظهرت فيها أن لبنان ومنذ زمن فينيقيا، أي منذ ستة آلاف سنة، كان يمارس الاقتصاد الحر وأصول القوانين المصرفية من الرهن إلى تموين السفن وغيره، وأن لبنان في عهد روما كانت له أكبر وأعظم مدرسة للحقوق ويدرس فيها جهابذة القانون الروماني، ولبنان فيه حرية إلى حد الفوضى… والحقيقة أنه كان لهذه المداخلة وقع ممتاز. عندما خرجت من القاعة رافقني آلان جوبيه، وهو كان رئيس الدورة ووزير خارجية فرنسا، وقال لي: أرجوك أن تنتظر بضع دقائق لديّ شعور أنه، استثنائياً هذه المرة، قد ننتزع قراراً فورياً بقبول لبنان. فقلت له: ماذا لو لم يحصل ذلك، هناك صحافة في الخارج وسيهزأون بي ويقولون إنه كان مغروراً. قال لي: لا، انتظرني لحظة. وبعد 10 دقائق تبلغت عبر وزراء خارجية دول عدة كلاماً مفاده: جئنا مع آلان جوبيه لنظهر لكم أن ليس فقط فرنسا تهتم بانضمام لبنان بل نحن أيضاً.

عدت إلى بيروت وبشعور انتصار هائل، وكأنني نابليون، وأنني انتزعت فوراً وللمرة الأولى بتاريخ أوروبا هذا القرار. وعند وصولي إلى المطار أبلغني قائد أمن المطار بأن هناك مجلس وزراء استثنائي بانتظارك. لم أدرك السبب ورحّبت بالأمر باعتبار أن مجلس الوزراء جاء في توقيته وسأبشرهم بالنبأ العظيم. وما إن دخلت إلى مجلس الوزراء حتى بدا لي بأن جلسة مجلس الوزراء غارقة في المزايدة وانتقادي تحت عنوان كيف ندخل نحن في اتفاق مع أوروبا وسوريا لم تدخل بعد؟ كيف يقبل الوزير بذلك؟ كانت كلها عملية تبييض وجه من أجل إرضاء سوريا. فاتُخذ قرار من رئيس الجمهورية والرئيس الحريري بتأجيل الجلسة. قلت لهما: كيف تؤجلون الجلسة فغداً سيأتيني وزراء المجموعة الأوروبية مهنئين؟ ماذا سأقول لهم؟ هل أقول إن أوروبا قبلت ولبنان لم يقبل بعد؟

تأجلت الجلسة، وعدت حزيناً إلى منزلي وقلقاً مما سأفعل غداً وماذا سأجيب السفراء الأجانب، خصوصاً الأوروبيين؟ هل أقول لهم نحن ندرس هذا الأمر ولم نقبل بعد، فيما دول أخرى تستقتل للحصول على هذا الأمر؟ وإذ أتى على ذهني أن أتصل بالرئيس حافظ الأسد. اتصلت صباح اليوم التالي وطلبت موعداً مستعجلاً فحُدد لي وذهبت وقلت له: يا سيادة الرئيس هذا ما فعلته في بروكسل وهذا أعتبره إنجازاً كبيراً للبنان، خصوصاً أن إسرائيل عضو في هذا الاتفاق ولنا مصلحة أن نكون فيه لنظهر وجهة النظر العربية ولنكذّب وجهة نظر إسرائيل حينما يلزم ذلك. ومصلحة لبنان الاقتصادية تقتضي ذلك لأن أي شيء سيصدّره سيكون حسب المواصفات الأوروبية. وقلت له أيضاً: لكن على ما يبدو أن البعض في لبنان يعتقد أنه يرضيكم بمعارضة هذا الأمر، ولذلك بدل أن يوافق مجلس الوزراء مهللاً لهذا الموضوع، فقد أجّل هذا القرار، وهذا عار علينا لأن كل الدول ستظن أن سوريا تمنعنا من الدخول في هذا الاتفاق، ولذلك جئت أبلغك بهذا الأمر.

صورة تذكارية للوفود المشاركة في مؤتمر مدريد (أرشيف فارس بويز)

في الحقيقة، كان سريع البديهة وأخذ الهاتف فوراً واتصل بغازي كنعان مسؤول المخابرات السورية في لبنان وقال له: يبدو أن البعض في لبنان لم يستوعب جيداً ما فعله وزير الخارجية الأستاذ فارس بويز في بروكسل ولربما لبنان بحاجة أن يجيب أوروبا بشكل سريع حول هذه المسألة. وبعد ذلك قلت للرئيس الأسد: أشكرك على هذا الدعم، ولكن اسمح لي أن أنصحكم أيضاً بالانخراط في هذا الاتفاق وإذا احتاج الوزير فاروق الشرع إلى مساعدة فأنا جاهز.

فور عودتي إلى بيروت، اتصل بي الرئيس الهراوي سائلاً: أين كنت؟ لم أقل له. قلت له: لا شيء. قال لي: هل لديك معلومات لماذا مجلس الوزراء اليوم بعد الظهر؟ قلت له: لا علم لي بالأمر. لم أبلغ حتى بذلك. قال لي: الآن سيبلغونك. بعد 10 دقائق اتصل بي أمين عام مجلس الوزراء هشام الشعار وأبلغني باجتماع مجلس الوزراء، فقلت له: ما هو جدول الأعمال؟ ضحك، وقال لي: أعتقد أن أمورك ستمشي. فهمت أنه قد يكون جاء إيعاز إلى الرئيس الحريري من غازي كنعان بأن يعقد مجلس الوزراء وتتم الموافقة على الاتفاق. وبالفعل، اجتمعنا في مجلس الوزراء، كأنه فيلم. بينما بالأمس كانت معارضة، أصبح في هذه الجلسة تأييد مطلق وإشادة بوزير الخارجية الذي نجح في هذا الأمر والقول إنهم درسوا الأمر خلال الليل، فيما أنا لم أترك أي وثيقة، وأنهم يوافقون ويجب أن نعطي (الأوروبيين) جواباً سريعاً بالموافقة. فقلت لهم ببعض الممازحة: أقترح إضافة على محضر الجلسة، التقدم بشكر خاص للرئيس الأسد الذي يبدو أنه أدرك مصالح لبنان أكثر مما أدركها مجلس الوزراء. طبعاً انزعج الجميع وأدركوا أن عملية المزايدة في دعم سوريا أحياناً تصل إلى حد غير منطقي وغير مقبول.

الرئيس الأميركي جورج بوش لدى لقائه الوفد اللبناني إلى مؤتمر مدريد (أرشيف فارس بويز)

«تفاهم نيسان»

هناك محطة هي «تفاهم نيسان» (أبريل) 1996. قامت إسرائيل بهجوم على جنوب لبنان، واقتحمت مناطق. في الحقيقة، كنت مدركاً من اللحظة الأولى أن إسرائيل غرقت وأنها ستحتاج إلى آلية سياسية لإخراجها من هذا المستنقع. أتاني هيرفيه دو شاريت، وزير خارجية فرنسا، بزيارة عاطفية للتعزية. قال: أنا آسف لما حصل، وماذا أستطيع أن أفعل؟ قلت له: إذا كانت الزيارة عاطفية فقد لبّت أهدافها. ولكن أعتقد أن لفرنسا دوراً أكبر من دور عاطفي لتأتي وتعزينا بمن قتل. قال: كيف؟ قلت له: إسرائيل حتماً ستكون في حاجة إلى مخرج من المستنقع الذي غرقت به، وستكون هناك آلية يشارك فيها الأميركي والسوري واللبناني والإسرائيلي. وأنا أعدك بألا أقبل بأي آلية لا تكون فيها فرنسا، شرط أن تتصل بالرئيس جاك شيراك وتقول له إنك باق في لبنان وفي الشرق الأوسط ربما لشهر، وأن تستدعي فريق العمل ويستقر في بيروت، وأن تستدعي طائرة خاصة للقيام بجولات مكوكية. إذا أخذت الموافقة من جاك شيراك، عليّ أنا أن أتمسك بأن تكون فرنسا جزءاً من أي تركيبة لحل هذه المشكلة، وهذا سيعود لفتح باب لفرنسا في الشرق الأوسط وخاصة في لبنان. ونحن لنا مصلحة بألا نثق فقط بأميركا. أميركا متعاطفة مع إسرائيل تعاطفاً كلياً ولا نثق بها وسنطالب بأميركا وفرنسا كرئيسين معاً. راقته الفكرة. خرج من عندي، ثم عاد واتصل بي صباح اليوم التالي باكراً وقال لي ما اتفقنا عليه حصل.

الوزير بويز مع وزير خارجية فرنسا آلن جوبيه (أرشيف فارس بويز)

اتصلت بالرئيس شيراك وكلفني أن أبقى في بيروت وسيأتي فريق العمل ليستقر في السفارة الفرنسية، وسآتي إليك. حضر، فقلت له أولاً: تعلم من ديغول الذي قال إنني آت إلى هذا الشرق المعقد بأفكار بسيطة. ثانياً: لا تقترح أبداً، لأنك في نظر بعض الفرقاء لا تزال كقوة انتدابية، فقط انتظر كل الاقتراحات لتوضع على الطاولة وتبنى أحدها. الكلام المكتوب خطير ويذكر بوعد بلفور وما إلى ذلك بينما الكلام المحكي لا قيمة له، وبالتالي لا تقدم ورقة مكتوبة إطلاقاً، إلا عند الوصول إلى الصيغة النهائية. أعطيته مجمل النصائح في عملية التفاوض. وبالفعل، راح يتجول. يوم في إسرائيل ويوم في دمشق ويوم في قبرص… وتابع هذا الأمر حتى نجحنا في أن نفرض على إسرائيل انسحابات معينة ونظاماً معيناً في الجنوب، وفرضنا عليها أحقية المقاومة. رفيق الحريري حتى تلك اللحظة لم يتحرك، لم يكن مقتنعاً بها. لم يكن يرى أن هناك لجنة ولا إمكانية بأن نفعل شيئاً، لكن عندما اتضح أن هناك لجنة ستتشكل، بدأ يتحرك عبر شيراك ويبيعه الموضوع، وصار يتصل بي يومياً ليعرف التفاصيل. وعندها لم أعد أرى دو شاريت. كلما عرف أنه آت إلى بيروت يتصل به ويقول له أريد أن ألتقيك. وبدأت الحلقة الإعلامية عنده وطلع في النتيجة أن الحريري هو من شكّل هذه اللجنة. الحقيقة، الرئيس رفيق الحريري لم يتدخل في (اتفاق نسيان) إلا بعدما أنجز 90 في المائة من طريقه. شعر أن هناك أمراً يركّب، وأراد أن يبيع دوراً لجاك شيراك. وهنا تحركت ماكينته الإعلامية الرهيبة، من صحف وتلفزيونات وإذاعات، وهو يتفوق على الجميع في ذلك، وطلع أنه هو من أنجز اتفاق نيسان وأنه من مهندسيه، فيما الحقيقة غير ذلك. وأحياناً كان ذلك يتم بالترافق مع تصرف مزعج. عندما شُكلت لجنة نيسان كان لوزارة الخارجية مندوب، سفير. تمثّل لبنان بضابط من الجيش وسفير. عيّنت أنا السفير، وإذ برفيق الحريري الذي لم يكن يرغب في أن أرسل له التقرير، راح يتصل بالسفير ويغريه بأن يتصل به ويعطيه المعلومات من الجنوب قبل أن يعرف بها وزير الخارجية. كان كل همّه أن يعرف، قبل أن أعرف أنا. وإذ في يوم من الأيام، حصل أمر مع مندوب سوريا العميد عدنان بلول، ويبدو أنه كان مكلفاً بالمراقبة من غازي كنعان. كان سفيرنا خارجاً من الاجتماع فاتصل برفيق الحريري ليخبره بما حصل فيه. سمعه عدنان بلول، فاقترب منه وأمسكه من يده وقال له: استحِ يا عميل، يا خاين، يا عميل، مع من تتكلم؟ فقال له: أنا أتحدث مع رئيس حكومتي. فقال له: كيف تعطي معلومات عبر التليفون؟ فقال له: أنا أتحدث مع رئيس حكومتي. فقال له: لا يحق لك أن تكلّم رئيس حكومتك. عليك أن تذهب إلى وزارة الخارجية وتقدم تقريراً إلى وزيرك، وهو يتواصل مع رئيس الحكومة، وليس أنت. جاءني السفير مرعوباً ولا يريد أن يذهب مجدداً إلى اجتماعات اللجنة.

بويز في المؤتمر الأوروبي المتوسطي (أرشيف فارس بويز)

غضبت. من أين يحق لعدنان بلول أن يفعل ذلك؟ لا يمكنني أن أذهب إلى حافظ الأسد من أجل هذا الموضوع، وفي الوقت نفسه لا أتحدث مع غازي كنعان. أرسلت أحد الأصدقاء المشتركين، وهو نائب وشخصية سياسية، وقلت له اذهب إلى غازي كنعان وقل له إنني لا أقبل بهذا التصرف على الإطلاق. حتى لو أخطأ السفير فتأديبه هذا عملي وليس عمله، وإذا لم يعتذروا فسننسحب من لجنة نيسان ونعلن لماذا انسحبنا.

فنبهني الصديق إلى حساسية المسألة. فقلت له ليبلغ غازي كنعان قيادته بالأمر، ولم أطلب أن يعالجها بنفسه. وبالفعل قال لي: ليذهب إلى الاجتماع المقبل وسيأتي عدنان بلول ليعتذر منه. ولكن قل للسفير ألا يتصل بالحريري الذي له حساسية عندهم (السوريين). فقلت له: هذا عملي، وطلبت السفير بالفعل وأنّبته.

الرئيس الياس الهراوي مع الوزير بويز (أرشيف فارس بويز)

التمديد للهراوي

هل لعب أداء الدبلوماسية اللبنانية في ملفات الصراع العربي – الإسرائيلي دوراً في التمديد للهراوي؟ يعود بويز إلى ذاكرته.

حينها لم يكن اسم إميل لحّود قد ظهر مرشحاً لرئاسة الجمهوريّة. العنصر الثاني الذي لعب دوراً في التمديد، وهو عنصر ربما غير مباشر، هو مؤتمر مدريد. عند الرئيس حافظ الأسد، لم تكن التفاصيل الداخليّة أهمّ شيء في الملفّ اللّبناني، لذلك لم يكن يتدخّل فيها أحياناً، فيرميها عند عبد الحليم خدّام وغيره. وفي الشّأن الداخلي السوري، لم يكن حافظ الأسد يستقبل رئيس حكومته أحياناً، إلّا كلّ ستة أشهر ولا يستقبل وزير الاقتصاد عنده. كان الهاجس الأكبر لحافظ الأسد واهتمامه الكلي يذهب بنسبة 100 في المائة باتجاه الصراع العربي – الإسرائيلي. ومن هنا، كانت عملية السلام بالنسبة إليه كلّ شيء، وسبب وجوده في لبنان. إذ إنّ ضرورة وجوده في لبنان هي ليضمن ألا يُستفرد بلبنان باتّفاق سلام منفرد وبألا يُعزل لبنان عن سوريا ثم تُعزل سوريا.

من هنا كانت إدارة مفاوضات السلام، وأنا من المشاركين فيها في ذاك الحين، مطمئنة بالنسبة إليه. أعجبه أنه بالنتيجة، كان لبنان صلباً في عملية مدريد، ولم ينجحوا في جرّه إلى أيّ موقع آخر. وما حصل في آخر يوم في مدريد مهم جداً. فقد أبلغني وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر بأنّ الرئيس جورج بوش (الأب) يريد لقائي قبل مغادرته مدريد عائداً إلى واشنطن. فسألته عن مكان اللّقاء وعن الأشخاص الذين سيحضرونه مع الرئيس. فأجابني بأنّ هؤلاء الأشخاص هم بيكر نفسه، ودينيس روس وهو من كبار المستشارين والمفاوضين والمتعاطف كلياً مع إسرائيل، وأعتقد مارتن أنديك إن لم تخني الذاكرة، الذي هو أيضاً يهوديٌّ. فقلت له: «جيّد. أنتم أربعة أشخاص، لذا سأحضر أنا ومعي ظافر الحسن الأمين العام لوزارة الخارجيّة، والسفير جعفر معاوي والسفير جهاد مرتضى». اخترت اثنين من الشيعة تحسّباً للمزايدات في بيروت والتأويل. فأنا أعرف الساحة اللبنانية وأعرف كيف يعمل الإعلام اللبناني و«يتراذل».

اقتراح بوش

قبل بيكر بعد نقاش. فاجتمع الوفدان، وإذ بالرئيس بوش يقول لي خلال الاجتماع: «يا معالي الوزير، عملية السلام في مدريد آليّة ثقيلة وبطيئة، فيما لو أجريتم مباحثات مباشرة مع إسحق شامير رئيس الوفد الإسرائيلي، سيكون الأمر أسرع». وكان شامير حينها رئيس الحكومة الإسرائيلية.

أنا فوجئت بهذا الموضوع. فقلت للرئيس بوش: «يا سيادة الرئيس، عندك وزير خارجية ممتاز. وقد تعب خلال أكثر من سنة لهندسة عملية السلام بشروطه. وضمن هذه الشروط أن تكون كلّ المفاوضات علنيّة. ومن هذه الشروط أن تصبّ هذه المفاوضات في سلام عادل ودائم وشامل. فكيف تريدني أن أتفاوض مع شامير بهذا الأمر؟ هذا سيكون خروجاً عن مؤتمر مدريد ونسفاً لكلّ مبادئه وسقوطاً له. وسيفتح الباب أمام استفراد بقية الوفود العربية كلها».

رفضت اقتراح الرئيس بوش، وقلت له: «لا يمكننا أن نجتمع مع شامير بوفدين منفصلين دون أن نكون قد ضربنا عملية السلام. وأنا الذي ساهمت مع جيمس بيكر في هندسة هذه العملية، لا يمكنني أن أفعل ذلك. نحن كلنا بحاجة لغطاء عربي شامل لكل سلام. إن دخلنا في مفاوضات كهذه ولنفترض أنّنا اتفقنا، فمن يضمن عندما نخرج من المؤتمر، أن يلتزم إسحق شامير بما وعد به؟ فلا شهود، ولا ضمانات ولا شيء، فأنا لا يمكنني أن أجتمع بشامير إلّا ضمن مؤتمر السلام».

فقال لي الرّئيس بوش: «نذهب إلى واشنطن وأنا سأترأس اجتماعكم وسأكون الشاهد والضامن». رفضت هذا الطّرح قائلاً: «لا، فربّما طرحكم سيحلّ جزءاً من المشكلة، ولكنّ الجزء الآخر لم يحلّ، وهو انفراط كلّ الوفود فيما بعد إذا قمنا بمفاوضات منفردة».

هنا أرسل له دينيس روس ورقة فتحها الرئيس بوش وسألني: «لماذا لا نحصر العمليّة دون أن نضرب اتّفاق السلام؟ تتفاوضون حول الانسحاب من (بلدة) جزين». أجبته عندئذ: «على قدر ما أُقدّر وزير خارجيتك اللامع جيمس بيكر لصدقيّته، على قدر ما لا يمكنني أن أُقدّر أفكار السيّد دينيس روس. تريدني أن أجلس إلى طاولة متنازلاً عن عُشر الأراضي اللبنانية المحتلة، لأبحث عن جزين؟ جزين لا تشكّل 1 في المائة من الأراضي المحتلة، فأكون أنا قد تنازلت عن لبنان المحتلّ مقابل جزين. وأنا أُتّهم كوني مسيحياً، وكون جزين مسيحية، بأنّني للاستحصال عليها بعت كلّ الأراضي اللبنانية. فهذا غير وارد على الإطلاق. لا أجلس إلى طاولة إلّا حول تنفيذ القرار 425 الصادر عن الأمم المتحدة بمضامينه كافّة. وأخذت الجلسة ساعتين ونصف تقريباً.

كلّ هذه الأمور كان حافظ الأسد يتابعها بحذافيرها. هل تصدّق أنّه شاهد خطابي في مدريد ستّ مرات على الفيديو! كان في كلّ مرّة يشاهده يختار منه مقاطع، ويسألني عندما ألتقي به: «والله من أين أتيت بهذا المقطع»؟

الرئيس السوري حافظ الأسد مستقبِلاً الوزير بويز (أرشيف فارس بويز)

30 لقاءً مع الأسد

التقيت الرئيس حافظ الأسد أكثر من ثلاثين مرة وربما وصلت إلى الأربعين. هذه الأمور ساهمت في خلق جوّ من الثّقة. كان حافظ الأسد يخشى، في الوقت الذي كانت فيه عملية السلام ما تزال موجودة رغم أنها تنازع، أن يدخل في مغامرة جديدة في عهد جديد «مش فهمان كوعو من بوعو»، فيما كان راضياً عن أداء عهد إلياس الهراوي في مؤتمر السلام.

فعندما انتهى التمديد، وطُرحت معركة الرئاسة، هذا الرّضا جعل حافظ الأسد يفاتح إلياس الهراوي، ويسأله فيما إذا فكّر باسم رئيس الجمهوريّة المقبل. فنفى إلياس الهراوي ذلك. فقال له: «أثبت الأستاذ فارس فعلاً جدارة وحكمة. ويجعلنا موضوع إدارة عملية السلام وموضوع صلابته في وجه الضغوطات مطمئنين له، أكثر من أن نجازف بشخص جديد لا نعلم كيف سيتفاعل مع هذا الموضوع. فهذا موضوع خطير وموضوع كبير لا يتحمّل مجازفة».

غداً حلقة خامسة وأخيرة

‫0 تعليق

اترك تعليقاً