تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
في زاوية ما من اللغة، حيث تعجز المفردات عن احتواء المعنى وتتعثر الحروف أمام فيض الروح، يقيم النُّبلاء. لا صاخبين كالمجد، ولا مدهشين كالأبطال، بل كحفيف أشجار تنحني للعابرين، لا تطلب التصفيق، ولا تكره الجفاء. النبلاء لا يُعرَفون بما يُقال عنهم، بل بما يُفعل بصمت، بما يُنسى على نحو كريم. إنهم ترف الروح حين لا يراهم أحد.
النُّبلاء لا يُورَثون ولا يُصنَعون. هم كالحياء، كحُسن الإنصات، كالابتسامة التي لا تطلب شيئًا ولا تخفي وراءها مكيدة. هم القادرون على أن يكونوا ضعفاء دون أن يُذلوا، وأقوياء دون أن يُهينوا. هم الذين يقولون “لا” وهم يبتسمون، ويغفرون دون أن يكتبوا ذلك في دفاتر المَن.
يبدو النبلاء أحيانًا كخاسرين في عيون هذا العالم: يتراجعون ليُفسحوا الطريق، فيسبقهم الوقح؛ يصمتون ليُجنبوا غيرهم الحَرج، فيُتهمون بالتخاذل؛ يهبّون دون أن يُطلب منهم، فيُنسى وجودهم. لكن خسائرهم ليست هزائم، بل انتصارات على أعداء خفيين: الغرور، الضغينة، الأنانية، وتلك الرغبة الجنونية في سحق الآخرين ليثبتوا أنفسهم.
النبلاء لا يبحثون عن تماثيل تُرفع، بل يتركون أثرهم على هيئة ظلٍّ باردٍ فوق جبين طفلٍ نائم، أو دمعة ممتنة في عين عجوز، أو جملة قيلت صدفة في الشُرفة حين كان العالم ينهار. يأتون في هيئة سؤال صادق، حُضن في لحظة صقيع، صمت مُحبّ وسط ضجيج الاتهام.
يولد النبل حين تنكسر النفس ولا تتشظى، حين يُظلم المرء فلا يَظلم، حين يُخذل فلا يخون. والنبلاء، في هذا السياق، هم الصامدون على حافة الُطهر، الذين لم تجرفهم قسوة العالم إلى قسوته. هم مقاومو القسوة بلا شعارات، حماة الرقة في زمن التوحش. لا يصرخون، بل يُنصتون. لا يتفاخرون، بل يمرّون كأنهم من نسج الحلم.
في النبل هشاشة، نعم، لكنها ليست هشاشة الزجاج، بل هشاشة الضوء: لا يُمس، لكنه يبدد العتمة. والنبلاء، حين يعبرون، لا يُحدثون جلبة، لكنهم يتركون العالم أقل قسوة، أكثر احتمالًا، أقل ظلمة.
النبلاء، ليسوا حكايات تُروى في المجالس، بل صمتٌ عميقٌ يُدرَك بعد غيابهم. هم الذين يختارون ألا يتحولوا إلى ما يكرهون. يظلون نقيين، في زمنٍ ملوّث. يظلون أوفياء لما هو هش، لما هو بشري، لما هو مُضيء… دون أن يطالبوا أحدًا بالتصفيق.
ولعل أعظم ما يميّز النبلاء، هو صبرهم الذي لا يُدرَس، لأنهم لا ينطقون به. صبرهم لا يشبه العناد ولا يشبه التسليم، بل يشبه المعرفة العميقة بأن كل شيء يمر، وأن الألم ليس مبررًا للفظاظة، وأن الجراح، مهما نبتت في الصدر، لا تخوّلهم أن يغرسوا الأشواك في صدور الآخرين.
النبلاء، في جوهرهم، خاسرون كبار في لعبة المكاسب السريعة. لا يُجيدون التسويق لأنفسهم، ولا يركضون في سباقات الضوء، ولا يمدّون أيديهم للمنابر. هم خلف الستار، دائمًا، يُصلحون ما أفسده العابرون، يمسحون آثار الغضب من الوجوه، يُربّتون على الكتف التي لم يسندها أحد. إنهم الحضور الصامت الذي يحمي العالم من أن ينزلق إلى هاويته الأخيرة.
في الأدب، لا يُكتب عنهم كثيرًا، لأنهم لا يخلقون الصراعات الكبرى التي يحبها الرواة، ولا يُحدثون تلك الجلبة التي تُنعش الحبكات. لكنهم، في السطور الهامشية، هناك. في الشخصيات التي تمر بلا ضجيج، في الجُمل التي تشبه الاعتذار، في الإيماءات التي لا تُنسى. هم الذين تركوا فينا أثرًا دون أن نعرف أسماءهم.
ومن مكر الحياة، أن النبلاء يشيخون وحيدين أحيانًا. لا أحد يتذكر كم مرة احتملوا، كم مرة تراجعوا عن كلمة جارحة، كم مرة ناموا وفي قلوبهم جملة لم يقولوها كي لا يؤذوا. لكنهم، مع ذلك، لا يندمون. لأن النبل، في ذاته، مكافأة. لأنه لا يُمارَس ليُكافأ، بل لأنه الشكل الأكثر نقاءً من الحضور الإنساني.
وفي النهاية، لا يمكن تعلُّم النبل من الكتب، ولا تلقّيه من النصائح، بل من الإنصات العميق للألم، ومن ذلك الشعور الخفي بأن العالم لا يُحتمل إلا إذا كان في قلوبنا مكانٌ للرحمة، ومكانٌ لمن لا صوت لهم.
النبلاء، بهذا المعنى، هم الطين الأخير الذي لم تفسده النار. هم الجُمل غير المنطوقة، والضحكات التي أُعطيت مجانًا، والخطوات التي انسحبت كي لا تُربك صفوف الآخرين. النبلاء، هم الفن النادر للحياة في ظل العتمة، دون أن تستهويهم فكرة أن يكونوا شموعًا.
ولذلك، حين نلتفت خلفنا، بعد كل ما مضى، لا نبحث عن الأقوياء، ولا عن المنتصرين. بل عن النبلاء. أولئك الذين جعلونا نؤمن، دون أن يلقّنونا الإيمان.